مدخل إلى فلسفة دولوز: نقد فكرة التعالي عند دولوز وغتاري (2)

 هذه ترجمة لقسم من كتاب

Todd may, Gilles Deleuze – An Introduction, page 28  

 ترجمة: محمد علي أبو معاش




تحدَّدَت مهمّة الفيلسوف في فهم المثلِ المتعالية والمشاركة فيها، قبل أن يصير دوره في فهم الإله المتعالي وتنمية العلاقة معه. وبعدها حلت الذات الإنسانية محل ذلك الإله. لكن هذا الإحلال لم يجرِ بشكل مباشر، حيث يعكس لنا ديكارت المخاضَ العسير الذي قاسته الذّات الإنسانية في رحلتها للتّعالي، من خلال ترددّه الظاهر بين سلطة الكوجيتو وسلطة الإله. فيشكّك ديكارت في كل ما يمكن الشّك فيه، ما عدا الذّات الإنسانيّة الّتي تشك. لكن هذه الذّات لا تقدر على إنشاء عالمها بعدُ، وهو أمرٌ لن يتم إلّا عند قدوم بيركلي ومن ثُمّ كانط. تحتاج الذّات الإنسانيّة - بحسب ديكارت- إلى المساعدة، وليس ثمّة غير الله من يقدر على تقديمها. لذا ينثر ديكارت بذور الألوهية في فكرة الذاتية التي وصل لها بالشك، رغم أن وجودَ الله يتجاوز هذه الذاتية، وتحتلّ الذات الإنسانية المرتبة الأولى كمحل للمعرفة (ابستمولوجيًّا)، لكنها تتبع خطى الإله (انطولوجيًّا)، لأنّ الله هو من يمنح للذات الإنسانية تجربتها ويضمنها لها.

 

هذا هو التّعالي المزدوج: فهو تعالٍ للذّات عن العالم، وتعالٍ للإله عن الذّات والعالم معًا. ويولّد التعالي الأوّل مشكلة الذّهن/الجسم: فإذا كان الذّهن متجاوزًا للجسم فكيف هي العلاقة بينهما؟، بينما يستمر التّعالي الثّاني في إحياء التّعاليم القديمة والقروسطية حول الله.

 

وبمرور الوقت يحلّ التّعالي الأوّل (تعالي الذات) محل التّعالي الثّاني (تعالي الإله)، فتتجاوز الذّاتُ الإنسانيّة العالمَ المادي وتبنيه وتمنحه شكله، وتقع الفلسفة في عبوديّة للذات الإنسانية بدءًا من كانط وصولًا لسارتر. وتتجاهلُ الفلسفةُ الإله، لكن ليس من خلال نبذ فكرة التعالي، بل من خلال اغتصاب عرش الإله كموجود متعالٍ. لم توجّهنا أوليةُ الذاتِ الإنسانية إلى المحايثةِ والانغماس في العالم، بل أحلّت موجودًا محلَّ آخر في موقع التعالي نفسه.

 

تلتزم أيُّ فلسفة للتعالي بفكرتين، ويسيطر عليها هاجسٌ واحد، سواءً أكانت تعاليًا للمثل أم للإله أم للذّات الإنسانية. تتضمن الفكرة الأولى وجود جوهرين انطولوجيّين مختلفين، أي نوعين من الوجود. فلا يمكن أن يتجاوز اللهُ العالمَ ويكونَ من نفس طبيعته الوجوديّة في الوقت عينه. فالعالم في أحسن الأحوال من طبيعة متناهية ومتغيّرة وذات قدرة فكريّة محدودة، بينما يمتاز الإله بكونه لا متناهيَ وغير متحوّلٍ وعالمًا بكلّ شيء. ولو كان الأمر غير ذلك لأصبحت فكرة تعالي الإله خاويةً من المعنى، فيمكن للإله حينئذٍ أن يكون في أي زمانٍ ومكانٍ لكنّه لا يمكن أن يكون أعلى من العالم.

Comments